Mohammed Bennis

أنا لا أنا

أنا الأندلسي المقيم بين لذائذ الوصل
وحشرجات البين
أنا الظاهري
القرطبي
الهاجر لكلّ وزارة وسلطان

أنا الذي ربّيت بين حجور النساء
بين أيديهنّ نشأت
وهنّ اللّواتي علمنني الشعر والخطّ والقرآن
ومن أسرارهنّ علمت ما لا يكاد يعلمه غيري
أنا الذي يقول: الموت أسهل من الفراق
هذه شريعتي
أن أبوح لأهل الصبابة
في بغداد وفاس
وقرطبة
والقيروان
أن أصاحب الدمعة إلى وساوس حرقتها
أن أبارك وردةً بين معشوق وعاشق
وأكتب لك
عن هذه البذرة التي تكفي
لكلّ من يكون
بين مسالك السمع والبصر
في حضرة
الجنون
 

من صور المدينة

خرجت إلى المدينة، في المساء، كعادتي.
صمت الطريق يلفّني.
وأضواء المصابيح
تسيل النوم في جفن الدّروب، ترشّني
بصفرتها، فأملأ راحتي
بوردٍ ذابل الريح.

وأنظر مرّةً أخرى.
أحدق في الفراغ، لكي أراك
وأنت مدينتي أبداً أراك:
غبار عواصف الأزمان
علا شرف المنازل، صبغة الألوان.
كسا جبساً، يواصل نقشه ترنيمة الأحزان.

 

غبار عواصف الأزمان

تراكم فوق آجرّ المآذن، فوق أضرحة بخُضْرتها،

وفوق مداخل الأسواق، ترفعها
مقدّمة من الأغصان.

 

غبار عواصف الأزمان
يلفّ زجاجيات تنتهي عند السقوف،
ويطفئ نجمة سالت على الأبواب والجدران.

 

أجرّ خطاي.
ينزف ظلي القصبيّ. تحمل بركتي شجر الجراح

 

أسير على صدى صمتي. وشاح

غبار عواصف الأزمان
تحوّل طُحلُباً، فوق الشقوق.
كأنّ الغاديات الرائحات بلا شروق
صعدن من القرار.
كأنّ غيوم أودية النهار
سرت خلف الجدار،
وما سحّت، هنا، يوماً، على أسوار داري.

غبار عواصف الأزمان
يضاعف ليلك الشرقيّ، فاسمع ما تناثر في السكينة:
مقامات تنير حداد دمعتي اللّعينهْ.

يمرّ أمامي الإنسان.
أرى المرجان خبا في رعشة الكلمات،
والبسمات.
حتّى خطوة الإنسان
يغلّفها غبار عواصف الأزمان.
 

طريق الكلمات

1
وحيداً، خرجت، أفتّش عن مدن من نحاس.
وملْء دمائي حلم تورّد، بين دمشق وفاس.

خرجت، وكلّي اشتياق
لصُبح جديد. فما جاءني نبأٌ عن نرول البُراق
بأرضي. يدقّ ببابي
ويحملني – كالرّصيع – إلى بسمة الأمّ، وهي تنام
معي في السرير، إلى رعشة الدّفء، عند الظّلام،
فألتفّ بالفلّ، ماءً ترقرق بين الشّموس أصير.
جرجت لأنّي بقيت حبيس اغترابي،
لعلّي أحرّك حرف المصير.

2
تركت ورائي أعمدة من رماد،
وما بعثرته ليالي السُّهاد.
وهذا المدى الأوّل
تسلّق صدري لهيباً. هو الأمل،
هو الشوق يورق في لحظاته خطف الإشارهْ.
كما الماء يرعش، برداً، خلال الصّباح،
تساقط غيث العبارهْ.
فما عاد، بيني وبين البشارهْ،
حجابٌ ولا عطش أو جراح.

3

تغرّيت عن ظُلمتي، كي أتيه
وتأخذني لمعة من نهار بلا سحب تعتريه.
وكنت المغيب، وكنت المساء،
أصدّق ما وعدتني به أغنيات الهواء،
وما يترقرق، عذباً، على صوت عرّافتي،
تخطّط رملاً، وتضحك، تقرأ في رملها صورتي،
فتنفث في شبحي
بذور الخصوبة: ماء تفجّر في ظُلمات القرار.
كأنّ ممالك من فرحي
تبشّر أبناءها بالزّنابق، وهي تطوف على عتبات المدار.
كأنّ منارة عرّافتي
تضوّع منها ضياء الشّموع.
تسحّه راحة طفل يشدّ القلوع،
ليوم الرّجوع.

4
وما كنت أعرف غير السبيل إليك.
مسالك تصعد فوق الجبال، بعيداً، لتحنو عليك.
ولكنّ ريحي القديمة شاخت على قدميك.
فماء الشواطئ غيض بسحر البخور،
وهشّمت النار مركبتي، والنشور
عمود من الملح، كفّنته بالتّراب،
بدون صلاة دفنته. عند حدود السّراب
تمزّق ظلّي: فقدت البكاء،
وفأساً يشقّ، بحدّه صخر السماء.

5
طريق من الضوء تأتي إلى مسمعي.
تعربد في أفقها الطيّع
ملامح أرض، هي الملتقى والهلاك.
فكيف أصدّ عن القلب أجنحة من هواك؟

تغرّبت عنك لأبلغ فيك غدي.
وها أنذا أتعلّم سرّ يدي.
فأبني بروجاً من الكبرياء، وأبدأ في خلدي
بسحق الجماجم: "يا أحدي
تخلّ عن الشّمس والياسمين.
وعن أمّة تتوالد في صدفات الحنين.
تخلّ عن الإسم والبلد،
تخلّ عن الساحرات،
وعن لغة تتوسّدها النّائحات".

6
حبال من العربات
تشقّ الجدار.
وأنصت:
هذا مخاضك يسرج ضوءاً على صهوات الخيول،
فكن لي كأساً، وكن لي نار،
وكن لي دالية تتوسّد شمس الحقول،
وحلماً توالى على مركبات النّهار.

وجه من؟

هي الظلال وحدها
بلذّة الصَّدى تدُلّني عليك
زُمُرُّد
وسوْسن
وحرقة شربتُ ماءها الرحيم
من يديك

وها أنا أركُض خلف ذبذبات قمرٍ
أرى إليك
وخطوتان تمضيان
وشفتاي تخطفان
لوْعة
من شفتيك

حقّاً أنا ابتدأتُ فيك إذْ رحلتُ ورأيت
بحراً يُضيء بمعادن
النُّجوم
وعواصف السريرة
اكتفيت
بغفوةٍ على بريق ركبتيك

شوْق
يوسِّع النِّداء
وكلّما منك اقتربتُ
صرْخة
أسمعُها تهزُّني
ووردة
تسبقني إلى هواء كتفيك

دم الصباح
دمي الذي وهبته لضفّتيْك
ينبئني أنّ الغناء
هو عناء زرقة
لها انسياب قدميْك

 

وصيّة من؟

طوْق الحمام
صوت يمدّ يده
كأنّها القنديل في حقْل الغمام
صوت يقول
لو أنَّ لي مدار نيزكٍ
أصبتُه
بشهْقة الذُّهول
لو أنَّ لي وصيّة
موشومة بلوعة الحنّاء في كلّ الفصول
كتبتُ في دم الغصون
بداية الحبّ تكون
تحت سقيفة العشّاق لعبة
يكتشفون صدْفة
طريقها أوّل ما يكتشفون
حمامة
ويضحكون

ألحبّ ينزل عليك وردةً
تجيء من أقصى مجاهل السكون

ألحبّ يُخْفي نهْره
عنِّي وعنك
خُطوةً
وخطوتين
يسرج فيك شوْقه
ودمعةً
ودمعتين
صوت الملاك
يدلُّ عاشقاً على سُكْر الهلاك
وعاشقاً على مسلّة الجنون

صوت الحبيب وحده
يسكنني قُبّته
لجسدي وهبتُ جمرة النّحول